الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل
.تفسير الآيات (83- 84): القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [83- 84].{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ}. أي: أذكر أيوب وما أصابه من البلاء ودعاءه ربه في كشف ما نزل به، واستجابته تعالى دعاءه وما امتن به عليه في رفع البلاء. وما ضاعف له بعد صبره من النعماء، لتعلم أن النصر مع الصبر، وأن عاقبة العسر اليسر. وأن لك الأسوة بمثل هذا النبيّ الصبور، فيما ينزل أحياناً بك من ضرّ. وأن البلاء لم ينج منه الأنبياء. بل هم أشد الناس ابتلاءً. كما في الحديث «أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل».وإن من أسباب الفرج دعاءه تعالى والابتهال إليه والتضرع له، وذكره بأسمائه الحسنى وصفاته العليا. وإن البلاء لا يدل على الهوان والشقاء. فإن السعادة والشقاء في هذا العالم لا يترتبان على صالح الأعمال وسيئها. لأن الدنيا ليست دار جزاء. وإن عاقبة الصدق في الصبر، هي توفية الأجر ومضاعفة البر. وقد روي أن أيوب عليه السلام، لما امتحن بما فقد أرزاقه وهلك به جميع آل بيته، وبما لبث يعاني من قروح جسده آلاماً، وصبر وشكر، رحمه مولاه فعادت له صحة بدنه وأوتي أضعاف ما فقده. ورزق عدة أولاد، وعاش عمراً طويلاً أبصر أولاده إلى الجيل الرابع. ولذا قال تعالى: {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} أي: تذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر، حتى يثابوا كما أثيب في الدنيا والآخرة. وبالجملة فالسر هو تثبيت قلوب المؤمنين وحملهم على الصبر في المجاهدة في سبيل الحق. وقد روى المفسرون هاهنا في بلاء أيوب روايات مختلفات، بأسانيد واهيات، لا يقام لها عند أئمة الأثر وزن. ولا تُعَارُ من الثقة أدنى نظر. نعم يوجد في التوراة سفر لأيوب فيه من شرح ضره، بفقد كل مقتنياته ومواشيه وآل بيته، وبنزول مرض شديد به، عدم معه الراحة ولذة الحياة، غرائب. إلا أنها مما لا يوثق بها جميعها. لما داخلها من المزيج، وتوسع بها في الدخيل، حتى اختلط الحابل بالنابل. وإن كان يؤخذ من مجموعها بلاء فادح وضر مدهش. ولو علم الله خيراً في أكثر مما أجمله في تنزيله الحكيم، لتفضل علينا بتفصيله. ولذا يوقف عند إجماله فيما أجمل، وتفصيله فيما فصل.تنبيه:قال بعضهم: أكثر المحققين على أن أيوب كان بعد زمن إبراهيم عليهما السلام. وأنه كان غنيّاً من أرباب العقار والماشية. وكان أميراً في قومه. وأن أملاكه ومنزله في أرض خصيبة رائعة التربة كثيرة المتسلسلة في الجنوب الشرقي من البحر الميت. ومن جبل سُعَيْر بين بلاد أدوم وصحراء العربية. والله أعلم..تفسير الآيات (85- 86): القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [85- 86].{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} أي: على القيام بأمر الله، وعلى شدائد النوب، وعلى احتمال الأذى في نصرة دينه تعالى، ففيهم أعظم أسوة: {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا} أي: في النبوة أو في نعمة الآخرة: {إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} أي: الكاملين في الصلاح.قال ابن كثير: أما إسماعيل فالمراد به ابن إبراهيم الخليل عليهما السلام. وقد تقدم ذكره في سورة مريم. وكذا إدريس عليه السلام. وأما ذو الكفل فالظاهر من السياق أنه ما قرن مع الأنبياء إلا وهو نبيّ.وقال آخرون: إنما كان رجلاً صالحاً، وكان ملكاً عادلاً وحكماً مقسطاً، وتوقف ابن جرير في ذلك، فالله أعلم.وذهب بعض المحققين إلى أن ذا الكفل هو حزقيل عليه السلام..تفسير الآيات (87- 88): القول في تأويل قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [87- 88].{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} أي: اذكر ذا النون يعني صاحب الحوت، وهو يونس عليه السلام، وصبره على ما أصابه، ثم إنابته ونجاته، ليثتبت في نبئه فؤادك ويقوى على الصبر على ما يقوله الطغاة جنانك. وهذه القصة مذكورة هاهنا وفي سورة الصافات وفي سورة ن. وذلك أن يونس بن متى عليه السلام، أمره الله أن ينطلق إلى أهل نينوى- من أرض الموصل، كرسي سلطنة الأشوريين ليدعوهم إلى الإيمان به تعالى وحده، وإلى إقامة القسط ونشر العدل وحسن السيرة. وكانوا على الضد من ذلك، تعاظم كفرهم وتزايد شرهم. فخشي أن لا يتم له الأمر معهم، فأبق من بيت المقدس إلى يافا. ونزل في سفينة سائرة إلى ترشيش ليقيم فيها. فأرسل الله ريحاً شديدة على البحر أشرفت السفينة معه على الغرق. فتخفف الركاب من أمتعتهم فلم يفد، فوقع في أنفسهم أن في السفينة شخصاً سيهلكون بسببه، فاقترعوا لينظروا من هو فخرجت القرعة على يونس، فقذفوه في البحر وسكن جيشانه وتموجه. وهيأ الله حوتاً ليونس فابتلعه، فمكث في جوف الحوت ثلاثة أيام. ثم دعا ربه فاستجاب له، وألقاه الحوت على الساحل. ثم أوحى الله إلى يونس ثانية بالمسير إلى نينوى، ودعوتها إلى الله تعالى، فوصلها ونادى فيهم بالتوحيد والتوبة. وتوعدهم إن لم يؤمنوا أن تنقلب بهم نينوى، فلما تحققوا ذلك آمنوا. فرفع الله عنه العذاب، قال تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98].تنبيهات:الأول: يونس عليه السلام يسمى في التوراة يونان وهو عبراني. ويقال إنه من جَت حافَر وهي قرية في سبط زبولون، في شمال الأرض المقدسة. وإنه نُبِّئَ قبل المسيح بنحو ثمانمائة سنة. والله أعلم.الثاني: أكثر المفسرين كما حكاه الرازي على أن يونس ذهب مغاضباً لربه. وأنه ظن بإباقه إلى الفلك، وتركه المسير إلى نينوى أولاً، أن يترك ولا يقاصّ. قال بعض المحققين: إنما خالف يونس أولاً الأمر الإلهي وترخص فيه، مخافة أن يظن أنه نبيّ كاذب إذا تاب أهل نينوى وعفا الله عن جرمهم. وإيثار صيغة المبالغة في مغاضباً للمبالغة. لأن أصله يكون بين اثنين، يجهد كل منهما في غلبة الآخر. فيقتضي بذل المقدور والتناهي. فاستعمل في لازمه للمبالغة، دون قصد مفاعلة وقد استدل بظاهر هذه الآية وأمثالها، من ذهب إلى جواز صدور الخطأ من الأنبياء، إلا الكذب في التبليغ، فإنه لا يجوز عليهم الخطأ فيه، لأنه حجة الله على عباده. وإلا ما يجري مجرى بيان الوحي، فإنه لا يجوز عليهم الخطأ في حال بيان المشروع. وهو قول الكرامية في المرجئة كما في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. وقول الباقلاني من الأشعرية على ما حكاه ابن حزم في الملل: وأما الجمهور المانعون من ذلك، فلهم في هذه الآية وأشباهها تأويلات. ونحن نؤثر ما قاله ابن حزم في هذا المقام، لأنه أطلق لساناً، قال رحمه الله: بعد أن حكى مذهب الكرامية المذكور: وذهب أهل السنة والمعتزلة والنجاريّة والخوارج والشيعة إلى أنه لا يجوز البتة أن يقع من نبيّ معصية بعمد لا صغيرة ولا كبيرة.ثم قال: وهذا القول الذي ندين الله تعالى به. ولا يحل لأحد أن يدين بسواه. ونقول: إنه يقع من الأنبياء السهو عن غير قصد. ويقع منهم أيضاً قصد الشيء يريدون به وجه الله تعالى، والتقرب به منه. فيوافق خلاف مراد الله تعالى. إلا أنه تعالى لا يقرهم على شيء من هذين الوجهين أصلاً، بل ينبههم على ذلك ولا بد، إثر وقوعه منهم. وربما يبغض المكروه في الدنيا، كالذي أصاب آدم ويونس والأنبياء عليهم السلام، بخلافنا في هذا. فإننا غير مؤاخذين بما سهونا فيه، ولا بما قصدنا به وجه الله عزّ وجلّ، فلم يصادف مراده تعالى. بل نحن مأجورون على هذا الوجه أجراً واحداً.ثم قال في الكلام على يونس عليه السلام: وأما إخبار الله تعالى أن يونس ذهب مغاضباً، فلم يغاضب ربه قط، ولا قال الله تعالى إنه غاضب ربه. فمن زاد هذه الزيادة كان قائلاً على الله الكذب، وزائداً في القرآن ما ليس فيه. هذا لا يحل ولا يجوز أن يظن بمن له أدنى مسكة من عقل، أنه يغاضب ربه تعالى. فكيف أن يفعل ذلك نبيٌّ من الأنبياء؟ فعلمنا يقيناً أنه إنما غاضب قومه، ولم يوافق ذلك مراد الله عزّ وجلّ، فعوقب بذلك. وإن كان يونس عليه السلام لم يقصد بذلك إلا رضاء الله عزّ وجلّ. وأما قوله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} فليس على ما ظنوه من الظن السخيف الذي لا يجوز أن يظن بضعيفة من النساء أو بضعيف من الرجال. إلا أن يكون قد بلغ الغاية من الجهل. فكيف بنبيّ مفضل على الناس في العلم؟ ومن المحال المتيقن أن يكون نبيّ يظن أن الله تعالى الذي أرسله بدينه لا يقدر عليه. وهو يرى أن آدميّاً مثله يقدر عليه. ولا شك في أن من نسب هذا للنبيّ صلى الله عليه وسلم الفاضل، فإنه يشتد غضبه لو نسب ذلك إليه أو إلى ابنه. فكيف إلى يونس بن متى الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تفضلوني على يونس بن متى؟» فقد بطل ظنهم بلا شك، وصح أن معنى قوله: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} أي: لن نضيق عليه كما قال تعالى: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر: 16]، أي: ضيق عليه. فظن يونس عليه السلام أن الله تعالى لا يضيق عليه في مغاضبته لقومه، إذ ظن أنه محسن في فعله ذلك: وإنما نهى الله عزّ وجلّ، محمداً صلى الله عليه وسلم عن أن يكون كصاحب الحوت، فنعم، نهاه الله عزّ وجلّ عن مغاضبة قومه، وأمره بالصبر على أذاهم وبالمطاولة لهم. وأما قوله تعالى: أنه استحق الذم والملامة، لولا النعمة التي تداركه بها، للبث معاقباً في بطن الحوت، فهذا نفس ما قلناه من أن الأنبياء عليهم السلام يؤاخذون في الدنيا على ما فعلوه، مما يظنونه خيراً وقربة إلى الله عزّ وجلّ، إذا لم يوافق مراد ربهم. وعلى هذا الوجه أقر على نفسه بأنه كان من الظالمين. والظلم وضع الشيء في غير موضعه. فلما وضع النبيّ صلى الله عليه وسلم المغاضبة في غير موضعها، اعترف في ذلك بالظلم. لا على أنه قصده وهو يدري أنه ظلم. انتهى كلام ابن حزم.وأقول: إن الذي يفتح باب الإشكالات هو التعمق في الألفاظ. والتنطع في شرحها وتوليد معاني ولوازم لها، والتوسع في وجوهها توسعاً يميت رونق التركيب ونصاعة بلاغته. ومعلوم أن التنزيل الكريم فاق سائر أساليب الكلام المعهودة بأسلوبه البديع. ولذا كانت آية تأخذ بمجامع القلوب رقة وانسجاماً. وبلاغة وانتظاماً. فلا ترى في كلمه إلا المختارات لطفاً، ولا في جمله إلا الفخيمات تركيباً، ولا في إشاراته إلا الأقوى رمزاً، ولا في كناياته إلا الأعلى مغزى. ومن ذلك سنته في الملام والوعيد من إفراغ القول في أبلغ قالب شديد، مما يؤخذ منه شدة الخطب، وقوة العتب وذلك لعزة الجناب الإلهي والمقام الرباني. فالعربيّ البليغ طبعاً، الذائق جبلة، إذا تلي عليه مجمل نبأ يونس عليه السلام في هذه الآية، يدهش لما ترمي إليه من قوة العتب والملام، وأنه بإباقه غاضب مولاه، غضباً لا يماثل الغضب على العصاة. فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وأنه ظن أن يُنسى فلا يؤاخذ. ويفلت فلا يحصر. فأتاه ما لم يكن على بال. ووقع في شرك قدرة المتعال، ثم تداركته النعمة، ولحقته الرحمة. هذا مجمل ما يفهم من الآية منطوقاً ومفهوماً. فافهم ما ذكرته لك. فإنه يبلغك من التحقيق أملك.الثالث: عدَّ بعض الملاحدة ابتلاع الحوت يونس مُحالاً. فكتب بعض المحققين مجيباً بأن هذا إنكار لقدرة الله فاطر السموات والأرض. الذي له في خلقه غرائب. ومنها الحيتان المتنوعة الهائلة الجثث، التي لم يزل يصطاد منها في هذا العصر، وفي بطونها أجساد الناس بملابسهم. وكتب آخر: لم يتعرض لتعيين نوع الحوت الذي ابتلع يونس. ولعله فيما قال قوم من المحققين. من النوع المعروف عند بعضهم بالزفا وهو من كبار الحيتان يكون في بحر الروم، واسع الحلقوم، حتى أنه ليبتلع الرجل برمته، دون أن يشدخه أو يجرحه. حتى يبقى في الإمكان أن يخرج منه وهو حيّ: ومع ذلك فلم يكن بغير معجزة بقاؤه ثلاثة أيام في جوف هذا الحوت، ولبث مالكاً رشده متمكناً من التسبيح والدعاء. انتهى.الرابع: الجمع في قوله: {فِي الظُّلُمَاتِ} إما على حقيقته، وهي ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل. وقد روي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما. أو مجاز، يجعل الظلمة لشدتها وتكاثفها في بطن الحوت كأنها ظلمات. والمراد منها أحد المذكورات، أو بطن الحوت. وقدمه الزمخشري ونظره بآية: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} [البقرة: 17].الخامس: قوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} أي: دعاؤه: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} يعني بأن قذفه الحوت إلى الساحل، قيل لم يقل فنجيناه كما قال في قصة أيوب عليه السلام: {فَكَشَفْنَا} [84]، لأنه دعا بالخلاص من الضر، فالكشف المذكور يترتب على استجابته. ويونس عليه السلام لم يدع، فلم يوجد وجه الترتيب في استجابته. وردّ بأن الفاء في قصة أيوب تفسيرية. والعطف هنا أيضاً تفسيري. والتفنن طريقة مسلوكة في علم البلاغة. ثم لا نسلم أن يونس لم يدع بالخلاص ولو لم يكن دعاء لم تتحقق الاستجابة. واستظهر الشهاب في سر الإتيان بالفاء ثمة. والواو هنا غير التفنن المذكور. أن يقال: إن الأول دعاء بكشف الضر وتلطف في السؤال.فلما أجمل في الاستجابة، وكان السؤال بطريقة الإيماء، ناسب أن يؤتى بالفاء التفصيلية. وأما هنا، فإنه لما هاجر من غير أمر، على خلاف معتاد الأنبياء عليهم السلام. كان ذلك ذنباً. كما أشار إليه بقوله: {مِنَ الظَّالِمِينَ} فما أومأ إليه هو الدعاء بعدم مؤاخذته بما صدر منه من سيئات الأبرار. فالاستجابة عبارة عن قبول توبته وعدم مؤاخذته: وليس ما بعده تفسيراً له، بل زيادة إحسان على مطلوبه. ولذا عطف بالواو. انتهى.السادس: قوله: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} أي: إذا كانوا في غموم، وأخلصوا في أدعيتهم منيبين، لاسيما بهذا الدعاء: وقد روي في الترغيب آثار: منها عند أحمد والترمذي: دعوة ذي النون، لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط، إلا استجاب له. وقوله تعالى:.تفسير الآية رقم (89): القول في تأويل قوله تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [89].{وَزَكَرِيَّا} أي: واذكر خبره: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً} أي: حين طلب أن يهبه ربه ولداً يكون من بعده نبيّاً، ولا يتركه فرداً وحيداً بلا وارث، وقد تقدمت القصة مبسوطة في أول سورة مريم وفي سورة آل عِمْرَان أيضاً. وقوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} ثناء مناسب للمسألة. قال الغزالي في شرح الأسماء الحسنى: الوارث هو الذي ترجع إليه الأملاك بعد فناء الملاك. وذلك هو الله سبحانه، إذ هو الباقي بعد فناء خلقه، وإليه مرجع كل شيء ومصيره. وقوله تعالى:
|